

في الحلقتين السابقتين من هذه الدراسة الميدانية التي قمنا بها حول أحوال وأجور الصحفيين في مصر، كشفنا جانبًا من الكلفة الإنسانية والمهنية لأزمة الأجور في الصحافة المصرية؛ فرصدت الحلقة الأولى واقعًا مريرًا أطاح بأكثر من 30% من الصحفيين تحت خطّ الفقر، فيما وضعتنا الحلقة الثانية أمام مرآة قاسية، حين أظهرت الأرقام أن ما يتقاضاه الصحفي الأمريكي في شهر واحد يعادل ما يحصل عليه الصحفي المصري في أربع سنوات كاملة.
وفي حلقة اليوم، ننتقل من تشريح الجُرح إلى النظر في تجارب الآخرين؛ من سؤال «كم نخسر؟» إلى سؤال أكثر جوهرية: «كيف تفكر الدول المتقدمة في الإعلام… وهل تعتبره عبئًا على الموازنة أم استثمارًا في وعي المجتمع؟».
وللإجابة على هذا السؤال، كان حتماً علينا مراجعة العديد من الموازنات الرسمية، وصناديق التمويل والتقارير الدولية، وإحصاءات رسمية منشورة، لترسم الأرقام ملامح خريطة الدعم العالمي للصحافة والإعلام.
والخلاصة الكبرى التي كشفته هذه الأرقام والإحصائيات، أن معظم الدول المتقدمة تدعم الإعلام دعمًا منتظمًا ومؤسَّسيًّا، وأن هذا الدعم ليس «منحة عابرة» ولا «رشوة بيضاء» لتلميع صورة السلطة، بل قرار سياسي واقتصادي واعٍ ينطلق من عدة قناعات رئيسية:
أولها: أن الإعلام ركيزة من ركائز الأمن القومي و«الأمن المعرفي» للمجتمع، وأن وجود منصّات مستقلة قادرة على إنتاج معلومات متنوّعة وموثوقة ليس رفاهية ديمقراطية، بل حقّ دستوري للمواطن، وأن كل دعم يوجه للإعلام الجاد، وكل جنيه يُنفق على الصحفي، هو في جوهره استثمار في بناء وعي المواطنين، وتحصين لمناعة الدولة ضد الشائعات والفساد واستغلال الجهل والأمية، واستثمار في استقرار النظام الديمقراطي والاقتصاد الوطني على السواء.
وفي المقابل تُظهر التجارب المريرة أن ترك الصحافة بلا دعم، وترك الصحفي تحت خطّ الفقر، يهدد جودة المحتوى، ويُضعف استقلاله، ويفتح الباب واسعًا أمام هيمنة رأس المال النفعي والدعاية السوداء المغلّفة في ثوب الأخبار، وتتحوّل غرف الأخبار من مساحة لفرز الحقائق إلى ساحة لـ«تجار الأخبار» ومن خطّ دفاع أول عن المجتمع إلى ثغرة في جدار الأمن القومي للبلاد، تُساهم في تآكل الثقة العامة، وتُغذّي الضجيج، والاستقطاب، وسقوط المعايير المهنية.
ومن هذا المنطلق رصدت الدراسة ثلاثة أنماط من الدعم، تتفاوت من بلد إلى آخر، لكنها تلتقي عند هدف واحد وهو حماية التعدّدية وضمان بقاء صحافة حرة قادرة على البقاء والاستمرار.



